خولة القزويني حجاب السكرتيره

حجـاب السكرتيـرة!
همسة: لا تحكم على ما تعلم (مثل روسي).
في دهاليز مؤسسة النجاح التجارية يتردد اسماً كالسكر حلاوة نقاءً، (شهد) فراشة ربيعية استوى عودها كغصن البان، صوتها المنعش ينتشر في الأثير المحبوس بين المكاتب فينتفض الروتين.
يتلفت الموظفون من وراء القواطع الشفافة إلى مشيتها الاقتحامية حينما تدّق الأرض بحوافرها المدببة فيتأجج فيهم نشاطاً غير عادياً.
تدفع الباب:
- (عبدالله) خذ هذا الملف لتراجع الحسابات.
وتطل برأسها من نافذة مكتب آخر:
- الاجتماع في الساعة العاشرة، أرجو عدم التأخير.
وتخلّف وراءها عاصفة من النميمة، نظرات الدهشة المنحدرة في الإسفاف جعلتها طُعماً لأفواه شرهة، تغمز إحدى الموظفات فور أن تدبر:
- ثوبها ينحسر حتى مكامن أنوثتها، كم هي وقحة!
وتتشفى زميلتها:
- لا أجد في ساقيها جمالاً يستحق كل هذا العرض الباذخ.
وبرد استفزازي مقصود يعبّر أحدهم:
- لكنها مدهشة.
صفعته الموظفة بنظرة سخط:
- بل رخيصة تعرض مفاتنها بابتذال.
وفي سياق الحقد النسوي توافقها أخرى:
- ولهذا عرفت كيف تستميل المدير.
اعترض أحدهم فترك المكتب غاضباً:
- أعوذ بالله منكم، صارت الأعراض مضغة في أفواهكم.
تأخذ (شهد) مكانها في المكتب بآلية من تناغمت مع الأجهزة الإلكترونية الصماء، متوافقة مع المكان، تشكل لوحة عمل من الطراز الرأسمالي، منجزة إلى درجة أن تتعطل حواسها الأنثوية في كبسة زر، التناقض الذي لم تستوعبه بيئة ذات ثقافة سطحية، اتخذوها لقمة سائغة تُقرض غيباً بمقراض الحقد والحسد.
لم يفهموا الابتذال كقرار مسبوق بنية شريرة تدفع الإنسان إلى ممارسة فنون من الاستهتار الأخلاقي، فهم حينما يقتربون من شهد يفاجئهم متراساً من الصلب والحديد، هذه الدمية الأزهرية ذات الملمس الحريري والطلة المغناج، يفرز جسدها اللدن قشرة صلبة كحالة دفاعية.
رغب فيها مديرها الكهل فعاث يغويها في الخلوات بالهدايا والعطايا لكنها تنزلق من بين أصابعه كالماء وتتبخر، مترفّعة، عصيّة على الرجال والمراهنات الغبية، قوضت أحلام التماسيح الساذجة فأعادتهم إلى أرحام أمهاتهم أجنة.
هذا الصباح زار المؤسسة مدير شركة (الوفاق)، (عبد الخالق الهديب) وفي لقاء عمل حافل تأخذ (شهد) موقعها كمفتاح لأسرار مديرها (حسن)، وبصوت مخروم صدأه التدخين ينفس (عبد الخالق) دهشته:
- تبارك الرحمن.
يلتفت إلى حسن:
- لم تخبرني يا (حسن) عن غزالة بهذا الجمال.
تجهّمت (شهد) فوضعت الملف على المكتب وردت الباب ثائرة.
ضحك (حسن) كمن اعتاد على مشاغبات طفلة مدللة.
- إنها جهنم الحمراء، لا يتجرأ مخلوقاً على الاقتراب من حصونها المنيعة.
دهش عبد الخالق:
- معقول؟!، معقول يا حسن تستعصي عليك فتاة بهذا الحجم؟!
- بل وترفض المكافآت والرتب التي يتمناها كل موظف وتتصرف بصرامة منفرة.
استمرئ عبد الخالق الفكرة وحدس أنها مغامرة لذيذة فانبرى يسأل في محاولة لتفنيد أساليب الصيد المعتادة:
- هددها بالطرد.
أجفل حسن:
- لا يا عبد الخالق، هذه النوعية نقطة جذب في الإدارة تعرف كيف تدير رؤوس العملاء بكفاءة استثنائية.
لكزه عبد الخالق في تخابث:
- بصراحة إنها تدير الرأس فعلاً وحتماً سأدمن على زيارتك!
صافحه حسن وهو يشيعه عند الباب:
- والمؤسسة ترحب بك في أي وقت.
تلفت عبد الخالق قاصداً شهد، قرأت السكرتيرة (إيناس) فضوله فردت:
- خرجت لطارئ.
شمل الردهات الضيقة صمتاً رسمياً وليس ثمة حركة إلا الساقي وهو يطوف بأواني الشاي والقهوة.
أقبلت عاصفة الجمال تشد على الملف كقضية، كمبدأ وعيناها تشخصان الممر بإطراقة ثابتة وفي مشية منتظمة، تجاهلت الكهلين المتحفزين برعونة تثير اشمئزازها ودخلت المكتب، يخترق الباب صوتها الأثيري معربداً في الهواء، دهش عبد الخالق وقد مكث يتلفت في الردهات كالأبله.
- تتحدث الإنجليزية بطلاقة؟!
تنهد حسن بحسرة من فشل في غزو بريطانيا العظمى!
- أمها إنجليزية.
وبالمثل يبرر عبد الخالق عجزه:
- أوه.. من ذوات الدم البارد.
الصد المهذب يكهرب مديرها حسن فتأتي ذبذباته مشحونة بالغضب:
- الأرقام ليست دقيقة.
ويشير إلى التقرير:
- أخطاء مطبعية فاحشة.
ويحدجها بنظرة افتراسية:
- ما بكِ هذا الأيام؟!
ردها كان حاداً كالسكين:
- يمكنك الاستغناء عني إن شئت.
أطلق العنان لعينيه الوقحتين تبحلقان في مساحاتها البكر، فاختلج صوته انفعالاً:
- إذن لما ترتدين الثياب الفاضحة؟
أجفلت وعيناها تجحظان في ذعر:
- فاضحة؟! هل تعتبر أناقتي فضيحة؟!
اختل توازنه:
- إنك تعذبيني بجمالك.
وحاول أن يسيطر على ارتباكه:
- ثيابك مثيرة.. لا تُحتمل.
نهرته بلطمة على خده:
- أيها الوقح.. احترم سنك واحترمني.
خرجت وهي تحاول أن تتجلد في مظهرها وتفتعل السكون.
هذه الزهرة المتوحدة في خصوصيتها تفجر لغماً ينسف الظنون السيئة والهواجس الخبيثة، فالهمس يستشري كالنار في الهشيم، (تحجبت!) تتناقل الألسن خبر حجابها في ذهول واستدراك:
- تحجبت؟!!
استراحت الموظفات فلعقن جراح الغيرة في صمت مريب.
- الله يستر عليها!
التحفة المرمرية مغطاة بثياب سود، يتداولون الحدث بشيء من التأويل والتخمين.
زميلتها إيناس تسأل في توجس:
- هل تحجبتِ عن قناعة؟
طبعاً، فقد أقنعني خطيبي بالحجاب وأدركت في النهاية أنه درع يحصن المرأة ويدفع عنها الأذى.
غصت إيناس فور أن تلقت خبر الخطوبة، فاستعلمت مغتاظة:
- حقاً أنتِ مخطوبة؟
- نعم، وبالأمس كان عقد قراني.
ألقمت زميلتها بحجر اليقين فردت ظنونها العميقة إلى نحرها خاسئة مدحورة، فعادت تتخابث:
- أمرك مدهش!
صاحت شهد بعدوانية:
- وأين الدهشة؟
اضطربت إيناس:
- تحولك المفاجئ من النقيض إلى النقيض.
كادت أن تنقض عليها لكنها تماسكت:
- لا أسمح لأحد أن يتدخل في حياتي، لكني مضطرة أن أكشف لكِ الأمر، فلقد تربيت بعد وفاة أبي في (لندن) وفي بيئة مختلفة تماماً عن بيئتكم، ولم أكن على علم ودراية بفلسفة الحجاب حتى خطبني ابن عمي وعلّمني وأدبني واقتنعت وتحجبت، والله يهدي من يشاء.
انكمشت (إيناس) في مقعدها كالفأرة المذعورة بعد أن فضحت شهد سريرتها الآثمة.
وتابعت حديثها:
- كنت أظنك يا إيناس أكثر إنسان يفهمني في المؤسسة لأنكِ طوال اليوم تعملين معي وشاهدة على سلوكي وتصرفاتي، فهل بدر مني ما يخدش الحياء أو يسيء للأدب؟!
قطع حديثهما دخول المدير (حسن)، أجفل فور أن وقعت عيناه على خمار (شهد) الأسود:
- ما هذا يا حاجة شهد؟!!
رمقته بنظرة احتقار مشوبة بثقة واعتزاز بالنفس:
- الدرع الذي يصد العيون النهمة.
احمرّ وجهه وشمله اضطراب شديد، لكنه استجمع إرادته وأطلق قراره:
- هذه الثياب لا تصلح لسكرتيرتي الخاصة، فأرجو أن تتركي المؤسسة وتبحثي عن مكان آخر.
نفثت (إيناس) فحيح الغيرة المكظوم وهي تختلس النظر إلى شهد متشفية.
ألقت شهد الأوراق من يديها وسحبت الكرسي قائلة في كبرياء:
- وأنا على أتم الاستعداد لترك العمل.
وكتبت من فورها قرار الاستقالة دون تفكير أو تردد ثم خرجت إلى الشارع تلتقط أنفاسها:
- الحمد لله أن وفقني ربي إلى هذا القرار.

ربي يدوم نوررك لناا

فديت طلنتتكم
منورين

منورررين

الله يخليككم لي